الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }

قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر همزة { وإنا }. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور في قوله { فآمنا به } الجن 2. والتقدير وءامنا بأن لن نعجز الله في الأرض. وذكر فعل { ظننا } تأكيد لفظي لفعل «آمنا» المقدر بحرف العطف، لأن الإِيمان يقين وأُطلق الظن هنا على اليقين وهو إطلاق كثير. لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضياً عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالىوالله لا يحب الفساد } البقرة 205 أعقبوا لتعريض الإِقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقاباً فأيقنوا أن عقاب الله لا يُفْلِت منه أحدٌ استحقه. وقدموه على الأمر بالإِيمان الذي في قولهوإنّا لمّا سمعنا الهُدى } الجن 13 الآية، لأن دَرْءَ المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحْلية، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ لم يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقادَ الشرك ووصفَ الله بما لا يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإِدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيراً لإِخوانهم ومرشداً إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإِسلام. وأما قوله تعالىولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس لهم قلوب لا يفقهون بها } الأعراف 179 الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإِشراك، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن. والإِعجاز جعل الغير عاجزاً أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإِفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي
ألم تر أن الأرض رحْب فسيحة فهل تُعْجِزَنِّي بُقعة من بِقاعها   
أي لا تفوتني ولا تخرج عن مُكْنتي. وذِكْر { في الأرض } يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله { ولن نعجزه هرباً } الهربُ من الرجم بالشهب، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم، فابتدأوا الإِنذار من عذاب الدنيا استنزالاً لقومهم. ويجوز أن يكون { نعجز } الأول بمعنى مغالب كقوله تعالىفما هم بمعجزين } النحل 46 أي لا يغلبون قدرتنا، ويكون { في الأرض } مقصوداً به تعميم الأمكنة كقوله تعالىوما أنتم بمعجزين في الأرض } الشورى 31، أي في مكان كنتم. والمراد أنا لا نَغلب الله بالقوة. ويكون { نعجز } الثاني، بمعنى الإِفلات ولذلك بُيّن بـ { هرباً } ، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق. والظن هنا مستعمل في اليقين بقرينة تأكيد المظنون بحرف { لن } الدال على تأبيد النفي وتأكيده.