الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

التسخير يعني التذليل وأن يكون المسخّر رَهْناً لخدمة المسخّر له، وزمان كان في مصر نظام السُّخرة، وهو أنْ يعملَ العمال بدون أجر، فالحق سبحانه سخَّر لنا البحر وذلَّله لخدمتنا، ولولا ذلك ما استطعنا أبداً ركوبه، ولا السير فيه ولا الانتفاع به. ومن تسخير البحر ما عرفناه من قصة سيدنا موسى لما ألقتْه أمه في البحر تنفيذاً لأمر الله، قال سبحانه:فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [القصص: 7]. إذن: صدرت الأوامر إلى البحر أن يلقيه بالساحل، وألاَّ يأخذه إلى الداخل، كما قال سبحانه:فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ.. } [طه: 39]. فالحق سبحانه كما يأمر العاقل يأمر الجمادات فتأتمر وتطيع، لذلك قال عن السماء:وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [الانشقاق: 2]. والتسخير تكليف الشيء تكليفاً قهرياً أنْ يكونَ في خدمة الخليفة وهو الإنسان، فالكون كله مُسخَّر له. يعني: يطيعه ويأتمر بأمره، ومن هذا التسخير سخَّر للإنسان جوارحه تُطيع مراده وتنفعل لإرادته انفعالاً تلقائياً سهلاً لا تكلُّفَ فيه. فاللسان ينطق بلا إله إلا الله لمجرد أنْ أردت ذلك وينطق بكلمة الكفر والعياذ بالله أيضاً لمجرد الإرادة، اليد والعَيْن والرِّجْل، وكلُّ جوارحك لا تعصي لك أمراً، تنفعل لك من حيث لا تدري لأن خالقها سخَّرها لك وذلَّلها لخدمتك. وقال لها: أطيعي عبدي، لأنني أريد أنْ أحاسبه بعد أنْ أعطيه الاختيار في أنْ يفعلَ أو لا يفعل، ولو كان الإيمانُ قهراً لقهرتُه عليه كما قهرتُ الملائكة، لكنني لا أريد قوالبَ تخضع، إنما أريد قلوباً تخشع، أريدك أنْ تأتي إليَّ طواعية وأنت قادر على الإعراض والانفلات. لذلك قلنا: إن السيف في الإسلام لا ليفرض على الناس عقيدة، إنما ليحميَ اختيارهم لعقائدهم، وبعد ذلك يتشدَّقون بأن الإسلام فُرِضَ بحدِّ السيف، وهذا غير صحيح بدليل بقاء كثيرين على دينهم بعد الفتح الإسلامي. والحق سبحانه حينما سخَّر كل شيء في الوجود لخدمة الإنسان قال سبحانه في الحديث القدسي: " يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له " يعني: لا تنظر إلى عبيدك بل انظر أنت عبد لمن ومَنْ سيدك. وهذا التسخير للجوارح موقوتٌ بالحياة الدنيا، أما في الآخرة فسوف تنطلق الجوارح من هذه القيود وتنفك من هذا القهر وهذا التسخير، لأنه كان مرتبطاً بإرادة العبد، وحيث لا إرادة له في الآخرة. وأصبحت الإرادة للمريد الأعلى سبحانه، فلا طاعةَ له ولا خضوعَ لأوامره، فالأمرُ كله يومئذ للهلِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]. لذلك تتحول الأعضاء والجوارح إلى شهود، يشهدون بالحق أمام الواحد الأحد، فاللسان يقول: قُلْتُ. واليد تقول: بطشْتُ.

السابقالتالي
2 3