الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُقرِّب لنا القضية العقلية القيمية فيعرضها لنا في صورة حسية مُشاهدة { وَمَا يَسْتَوِي ٱلْبَحْرَانِ } [فاطر: 12] وكأن الله يقول لنا: كما أن هناك أشياء حسية لا تستوي في الحسِّ، كذلك في القيم أشياء لا تستوي. معنى { ٱلْبَحْرَانِ } [فاطر: 12] البحر معروف، وهو المتسع الذي يحوي الماء المالح، وسُمِّي النهر أيضاً بَحْراً على سبيل التغليب، والنهر يحوي الماء العذب، فهما مختلفان لا يستويان { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } [فاطر: 12] { وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [فاطر: 12] إذن: هما وعاء لشيء واحد هو الماء، فهما وإنِ اشتركا في الشيء الواحد وهو الماء فهما مختلفان في النوع: هذا عذب، وهذا مالح، العَذْب وُصِف بأنه { عَذْبٌ فُرَاتٌ } [فاطر: 12] أي: شديد العذوبة { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } [فاطر: 12] سهل المرور في الحَلْق هنيئاً، ووصف المالح بأنه { مِلْحٌ أُجَاجٌ } [فاطر: 12] شديد الملوحة. وبين العَذْب والمالح عجائب في التكوين، ففيهما مثلاً تعيش الأسماك ونأكلها، فلا نفرق بين سمك الماء المالح وسمك الماء العَذْب لأن الله أعدَّ الكائن الحي ليأخذ من الماء مقوِّمات حياته، وينفي ما لا يريد، مثل الشجرة تزرعها، فتأخذ من الأرض العناصر اللازمة لها وتطرد ما لا تحتاج إليه. ففي التربة الواحدة تزرع مثلاً شجرة شطة وعود القصب، فتتغذى الشجرتان بنفس العناصر، وتُسْقى بنفس الماء، لكن يخرج الطَّعْم مختلفاً تماماً، كما قال سبحانه:وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلأُكُلِ } [الرعد: 4]. وهذه فطرة وغريزة جعلها الله في كل الكائنات الحية، أن تأخذ من الغذاء ما تحتاج إليه فقط، ولما أراد العلماء أنْ يُقرِّبوا لنا عملية التغذية في النبات قالوا: إنها تعتمد على خاصية الأنابيب الشعيرية، فالشعيرات الجذرية تمتصُّ الماء والغذاء من التربة وتُوصِّله بهذه الخاصية إلى الساق والأوراق، لكن فاتَهُم أن الأنابيب الشعيرية تمتص الماء دون تفرقة ودون تمييز لعنصر دون عنصر، ودون انتخاب لمادة دون أخرى. إذن: ليست هي الخاصية الشعيرية، إنما هي الغريزة والفطرة الإلهية التي أودعها الله في الكائن الحي. والإنسان تطرأ عليه مسائل غريزية، ومسائل عاطفية، ومسائل عقلية: فالمسائل العاطفية مثل الحب أو البغض لا دخْلَ للتشريع فيها لأن الإنسان لا يملك التحكم فيها، فأحبِبْ مَنْ شئتَ، واكره مَنْ شئتَ، لكن شريطة ألاَّ يُخرِجك الحب أو الكُرْه عن حَدِّ الاعتدال إلى الظلم والتعدي، كما قال سبحانه:وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ.. } [المائدة: 8]. كذلك المسائل الغريزية لا يتدخَّل فيها الشرع، فالجوع والعطش مثلاً غرائز يعرفها المرء بنفسه وبالتجربة، فأنت لا تُعلِّم ولدك الجوع أو العطش، بل هو يعرفه بنفسه حين يجوع وحين يعطش.

السابقالتالي
2 3