الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }

قلنا: إن التوبة لها مراحل، فهناك توبة شرعها الله، ومجرد مشروعية التوبة من الله رحمة بالخلق، وهي أيضاً رحمة بالمذنب لأن الحق سبحانه لو لم يشرع التوبة لاستشرى الإنسان في المعاصي بمجرد انحرافه مرة واحدة، وإذا استشرى في المعاصي فالمجتمع كله يشقى به، إذن: فمشروعية التوبة نفسها رحمة بمن يفعل الذنب، وبمن يقع عليه الذنب، وقبول التوبة رحمة أخرى بمن عمل الذنب. وأنت إذا سمعت قوله الحق سبحانه:ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ... } [التوبة: 118]. فافهم أن تشريع التوبة إنما جاء ليتوب العباد فعلاً، وبعد أن يتوبوا، يقبل الله التوبة. والحق هنا يقول: { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } وعطف على النبي صلى الله عليه وسلم { ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ } ، فأي شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول الله: { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ }؟! ونقول: ألم يقل الحق سبحانه له:عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ... } [التوبة: 43]. فحين جاء بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الغزوة، فأذن لهم، مع أن الله سبحانه قال:لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً... } [التوبة: 47]. إذن: فرسول لله صلى الله عليه وسلم كان بالفطرة السليمة قد اتخذ القرار الصائب، ولكن الحق سبحانه لا يريد ان يتبعوا فطرتهم فقط، بل أراد أن يضع تشريعاً محدداً. وشاء الحق سبحانه أن يخبرنا بأنه قدم العفو لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أذن لمن استأذنه من المنافقين ألا يخرجوا إلى القتال، وهناك أشياء يأخذها الله على عبده لأن العبد قام بها ضد صالح نفسه، ومثال هذا من حياتنا ولله المثل الأعلى: أنت إذا رأيت ولدك يذاكر عشرين ساعة في اليوم فإنك تدخل عليه حجرته لتأخذ منه الكتاب أو تطفئ مصباح الحجرة، وتقول له: " قم لتنام ". وأنت في هذه الحالة إنما تعنف عليه لأنك تحبه، لا، لأنه خالف منهجاً، بل لأنه أوغل في منهجٍ وأسلوب عملٍ يرهق به نفسه. وحين سمح النبي صلى الله عليه وسلم لقوم أن يتخلفوا، فهل فعل ذلك ضد مصلحة الحرب أم مع مصلحة الحرب؟ إنهم لو اشتركوا في الحرب لكثر ثوابهم حتى ولو حرسوا الأمتعة أو قاموا بأي عمل، إذن: فإذنه صلى الله عليه وسلم لهم بالتخلف هو تصعيب للأمر على نفسه. ولذلك نجد أن كل عتب على نبي الله، إنما كان عتباً لصالحه لا عليه فسبحانه يقول له:لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ... } [التحريم: 1]. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحل ما حرم الله بل حرم على نفسه ما أحل الله له، وهذا ضد مصلحته، وكأن الحق يسائله: لماذا ترهق نفسك؟.

السابقالتالي
2 3