الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }

قلت: جملة يقاتلون: حال من المؤمنين بياناً للشراء، أو استئنافاً لبيان ما لأجله الشراء، وقيل: " يقاتلون ": بمعنى الأمر، ووعداً: مصدراً لما دل عليه الشراء، فإنه في معنى الوعد، أي: وعدهم وعداً حقاً لا خلف فيه. يقول الحق جل جلاله: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } أي: عوضهم في بذل مُهجهم وأموالهم في سبيله الجنة ونعيمها، ومن جملته: النظر إلى وجهه الكريم. قال بعضهم: فانظر... ما أكرمه سبحانه، فإن أنفسنا هو خلقها، وأموالنا هو رزقها، ثم وهبها لنا، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة. هـ. ثم بيَّن وجه الشراء فقال: { يُقاتِلُون في سبيل الله } لإعلاء كلمة الله، { فيَقتلون } الكفارَ، { ويُقتلون } شهداء في سبيل الله. وقرأ الأخَوَانِ بتقديم المبني للمفعول لأن الواو لا ترتب، وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل، أي: فيموت بعضهم ويجاهد الباقي. وعد ذلك لهم { وعداً عليه حقاً } لا خلف فيه، مذكوراً ذلك الوعد { في التوراة والإنجيل والقرآن } أي: إن الله بيَّن في الكتابين أن الله اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة، كما بيَّنه في القرآن، أو كل أمة أمرت بالجهاد ووعدهم هذا الوعد. { ومن أوفى بعهده من الله }؟ هومبالغة في الإنجاز، أي: لا أحد أوفى منه بالعهد، { فاستبشروا ببيعكُم الذي بايعتم به } أي: فافرحوا به غاية الفرح، فإنه أوجب لكم أعظم المطالب، كما قال: { وذلك هو الفوزُ العظيم }. قال بعضهم: ناهيك من بيع، البائع فيه رب العلا، والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم. الإشارة: قد اشترى الحق جل جلاله منا أنفسنا وأموالنا بالجنة، فمن باع نفسه لله بأن خالف هواها وخرق عوائدها، وسعى في طلب مولاها، عوضه جنة المعارف، معجلة، وزاده جنة الزخارف، مؤجلة. ومن باع ماله بأن أنفقه في مرضاة الله، وبخل بنفسه، عوضه جنة الزخارف، مؤجلة. قال في الإحياء ـ في باب الذكر وفضيلته ـ: وأنه يوجب الأنس والحب، فإذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله، وما سوى هو الذي يفارقه عند الموت، فلا يبقى معه في القبر أهل، ولا مال، ولا ولد، ولا ولاية، ولا يبقى معه إلا ذكر الله، فإن كان في أنس به تمتع به، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه، إذ ضرورات الحاجات في الحياة تصد عن ذكر الله، ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنه خلّى بينه وبين محبوبه، فعظمت غبطته وتخلص من السجن الذي كان ممنوعاً فيه، عما به أنسُه. ثم قال: ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشهادة لأن المطلوب هو الخاتمة، ومعنى الخاتمة: وداع الدنيا كلها، والقدوم على الله، والقلب مستغرق بالله، منقطع العلائق عن غيره، والحاضرُ صَفّ القتال قد تجرد قلبه لله، وقطع طعمه من حياته، حباً لله وطمعاً في مرضاته، وحالة الشهيد توافق معنى قولك: لا إله إلا الله، فإنه لا مقصود له سوى الله.

السابقالتالي
2