الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

يقص لنا القرآن هنا حالاً من أحوال المنافقين، وأحوالهم مع الإيمان متعددة. وقد ذكر الحق سبحانه عنهم أشياء صدَّرها بقوله: { وَمنْهُمْ } ، { وَمنْهُمْ } و { وَيَحْلِفُونَ } ، { وَيَحْلِفُونَ } ولذلك يسميها العلماء " مناهم التوبة " ، مثل قوله:وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ... } [التوبة: 75]. وقول الحق:وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ... } [التوبة: 61]. وقوله الحق:وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي... } [التوبة: 49]. وقال الحق عنهم أيضاً: { وَيَحْلِفُونَ } ، { وَيَحْلِفُونَ } ، { وَيَحْلِفُونَ } ويقولون عنها: " محالف التوبة " ، ويقص الحق هنا حالاً آخر من أحوال المنافقين، وقد قص له نظيراً فيما سبق، وهؤلاء المنافقون - كما قلنا - متعارضون في ملكاتهم، ملكة لسانية تؤمن، وملكة قلبية تكفر. والمزاوجة بين الملكات المتناقضة أمر عسير على النفس وشاق، ويتطلب مجهوداً عاطفيّاً، ومجهوداً عقليّاً، ومجهوداً حركيّاً، فَهُم إذا خَلَوْا إلى شياطينهم قالوا كلاماً، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا كلاماً، ويقص الحق ذلك حين يعلنون الإيمان بألسنتهم في قوله:وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا... } [البقرة: 14]. أما إذا خَلَوْا إلى أنفسهم فالحق يصف حالهم:وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ... } [البقرة: 14]. وهكذا تُكْبَت ملكات لسانهم في أن يقولوا وقت أن يكونوا مع المؤمنين، أما حين يكونون مع إخوانهم فهم يُنفِّسون عن ملكاتهم فيقولون قولاً مختلفاً، وهذه مسألة متناقضة ولذلك قال القرآن فيما سبق:لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [التوبة: 57]. أي: لو أنهم يجدون مكاناً أميناً، لا يراهم فيه المؤمنون، لنفّسوا عن أنفسهم، وسبّوا النبي، وسبّوا المؤمنين، وقالوا ما يريدون، إلا أنهم لا يجدون هذا المكان، إنهم يتمنون لو وجدوا ملجأ يلجأون إليه، أو مغارة يدخلون فيها لكي يُنفِّسوا عن أنفسهم إذن: { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } ، لكنهم لا يجدون. ويقص الحق سبحانه وتعالى هنا قصة أخرى من أحوالهم فيقول عز وجل: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً... } [التوبة: 107]. نحن نعلم أن كلمة " مسجد " في عمومها هي مكان السجود، وفي الخصوص هي مكان يحجز للسجود وللصلاة فقط، فإن أردت المعنى العام، فكل الأرض مسجد، وتستطيع أن تصلي في أي مكان فيصير مسجداً، لا بالمكان ولكن بالمكين، وبعد ذلك تزاول فيه أعمال الحياة، وقد تصلي في الفصل الدراسي أو المكتب أو المصنع أو الحقل أو في أي مكان تزاول فيه أسباب الحياة. وبذلك يصبح المكان الذي تصلي فيه مسجداً بالمكين، ولكن هناك مسجد آخر مخصص دائماً للصلاة حين يؤخذ حيز من المكان، ويقال: " حجز ليكون مسجداً " ، فلا تباشر فيه أي عملية من عمليات الحياة إلا الصلاة وهو مسجد - بالمكان -، ونحن نعلم أن أول مسجد أسِّس هو مسجد قباء والذين بنوه هم بنو عمرو بن عوف، ثم أراد المنافقون أن يُنفِّسوا عن أنفسهم في صورة طاعة، فبنوا مسجداً ضراراً، وقد بناه بنو غُنْم بن عوف وأرادوا بهذا المسجد أن ينافسوا مسجد قباء.

السابقالتالي
2 3 4 5