الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

جملة معترضة تذييلاً لما قَبلها. والواو اعتراضية فهو متّصل بجملةقد جاءكم بصائر من ربّكم } الأنعام 104 الّتي هي من خطاب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير «قل» كما تقدّم، والإشارة بقوله { وكذلك } إلى التّصريف المأخوذ من قوله { نُصرّف الآيات }. أي ومثلَ ذلك التّصريف نُصرّف الآيات. وتقدّم نظيره غير مرّة وأوّلها قولهوكذلك جعلناكم أمّة وسَطا } في سورة البقرة 143. والقول في تصريف الآيات تقدّم في قوله تعالىانظر كيف نصرّف الآيات } في هذه السّورة 46. وقوله { وليقُولوا دَرَسْتَ } معطوف على { وكذلك نصرّف الآيات }. وقد تقدّم بيان معنى هذا العطف في نظيره في قوله تعالىوكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } من هذه السّورة 55. ولكن ما هنا يخالف ما تقدّم مخالفة مَّا فإنّ قول المشركين للرّسول عليه الصلاة والسلام { درستَ } لا يناسب أن يكون علّة لتصريف الآيات، فتعيَّن أن تكون اللاّم مستعارة لمعنى العاقبة والصيرورة كالّتي في قوله تعالىفالتقطه آل فرعون ليكونَ لهم عدوّاً وحزناً } القصص 8. المعنى. فكان لهم عدوّاً. وكذلك هنا، أي نصرّف الآيات مثلَ هذا التّصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدّراسة والتّعليم فيقولوا دَرَسْتَ. والمعنى أنّا نصرّف الآيات ونبيّنها تبييناً من شأنه أن يصدر من العَالِم الَّذي دَرَس العلم فيقول المشركون دَرستَ هذا وتَلَقَّيتَه من العلماء والكُتب، لإعراضهم عن النّظر الصّحيح الموصل إلى أنّ صدور مثل هذا التَّبيين من رجل يعلمونه أمِّيّاً لا يكون إلاّ من قِبل وحي من الله إليه، وهذا كقولهولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر } النحل 103 وهم قد قالوا ذلك من قَبْل ويقولونه ويزيدون بمقدار زيادة تصريف الآيات، فشُبّه ترَتُّب قولهم على التّصريف بترتّب العلّة الغائيَّة، واستعير لهذا المعنى الحرفُ الموضوع للعلّة على وجه الاستعارة التّبعيّة، ولذلك سمَّى بعض النّحويين مثل هذه اللاّم لام الصّيرورة، وليس مرادهم أنّ الصّيرورة معنى من معاني اللاّم ولكنّه إفصاح عن حاصل المعنى. والدّراسة القراءة بتمهّل للحفظ أو للفهم، وتقدّم عند قوله تعالىوبما كنتم تدرسون } في سورة آل عمران 79. وفعله من باب نصر. يقال درس الكتاب، أي تعلّم. وقد تقدّم في قوله تعالىبما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } آل عمران 79، وقالوَدَرَسوا ما فيه } الأعراف 169. وسمّي بيت تعلّم اليهود المِدْرَاسَ، وسمّي البيت الّذي يسكنه التّلامذة ويتعلّمون فيه المدرسة. والمعنى يقولون تعلّمت، طعْناً في أمّية الرّسول ـــ عليه الصّلاة والسّلام ـــ لئلاّ يلزمَهم أنّ ما جاء به من العلم وحي من الله تعالى. وقرأ الجمهور { درست } ـــ بدون ألف وبفتح التّاء ـــ. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو «دَارسْتَ» ـــ على صيغة المفاعلة وبفتح التّاء ـــ أي يقولون قرأت وقُرىء عليك، أي دارسْتَ أهل الكتاب وذاكرتهم في علمهم. وقرأه ابن عامر ويعقوب «دَرَسَتْ» ـــ بصيغة الماضي وتاء التأنيث ـــ أي الآيات، أي تكرّرتْ. وأمّا اللاّم في قوله { ولنبيّنه لقوم يعلمون } فهي لام التّعليل الحقيقيّة. وضمير { نبيّنه } عائد إلى القرآن لأنّه ماصْدَق { الآيات } ، ولأنّه معلوم من السّياق. والقوم هم الّذين اهتدوا وآمنوا كما تقدّم في قولهقد فصّلنا الآيات لقوم يعلمون } الأنعام 97، والكلام تعريض كما تقدّم. والمعنى أنّ هذا التّصريف حصل منه هدى للموفّقين ومكابرة للمخاذيل. كقوله تعالىيضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضلّ به إلاّ الفاسقين } البقرة 26.