الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

لمَّا أمر الخَلْقَ بمتابَعَةِ الأنْبِيَاءِ، ثمَّ خوَّفَهُم بعذاب الدُّنْيَا وهو قوله: { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } ، وبعذاب الآخِرَةِ وهو السُّؤالُ ووزن الأعمال رغبهم في دعوة الأنْبِيَاء في هذه الآية بطريق آخر، وهو أنَّ ذكر كثرة نعم اللَّه عليهم، وكثرة النِّعيمِ توجبُ الطَّاعة فقال: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي: جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكَّنَّاكم، والمُرَادُ بالتَّمكين التمليك والقوة والقدرة.

قوله " وجَعَلْنَا لكم " يجوز أن يكون " جَعَلَ " بمعنى " خَلَقَ " فيتعدَّى لواحد فيتعلَّقُ الجاران بـ " الجَعْل " ، أو بمحذوف على أنَّهُمَا حالان من " مَعَايِشَ " لأنهما لو تأخرا لجاز أنْ يكونا وصفين. ويجُوزُ أن تكون التصييريَّة فتتعدَّى لآثْنَيْنِ أوَّلهما: " مَعَايِشَ " ، والثَّأني أحد الجارين، والآخر: إمَّا حال متعلِّقَةٌ بمحذوف، وإمَّا متعلِّقةٌ بنفس الجعل وهو الظَّاهِرُ.

و " مَعَايِش " جمع مَعيشَةٍ، وفيها ثلاثةُ مذاهبٍ:

مذهبُ سيبويه والخَلِيل: أنَّ وزنها مَفْعُلَةٍ بِضَمِّ العين، أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأوَّلِ جُعلتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، ونُقِلَتْ إلى فَاءِ الكَلِمَةِ. وقياس قول الأخْفَشِ في هذا النَّحوِ أن يغيِّر الحرفَ لا الحَرَكَة، فـ " معيشة " عنده شَاذَّةٌ إذْ كان يَنْبَغِي أَن يقال فيها مَعُوشة.

وأمَّا على قولنا إنَّ أصلها " مَعِيشَةٌ " بكسر العين فلا شُذُوذَ فيها ومذهب الفرَّاءِ: أنَّ وزنها مَفْعلة بفتح العين، وليس بشيءٍ.

والمعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي: يُحْيا وقال الزَّجَّاجُ: المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر لـ " عَاشَ " يعيشُ عَيْشاً، وعِيْشَةً قال تعالى:فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة: 21]، وَمَعَاشاً: قال تعالى:وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [النبأ: 11]، ومَعِيشاً قال رُؤبةُ: [الرجز]
2406 - إلَيْكَ أشْكُوا شِدَّةَ المَعيشِ   وَجُهْدَ أعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
والعامَّةُ على " مَعَايشَ " بصريح الياءِ. وقد خرج خارجةُ فَرَوَى عن نافع " مَعَائِشَ " بالهَمْزِ، وقال النَّحْويُّون: هذا غَلَطٌ؛ لأنَّهُ لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المدِّ زائداً نحو: صَحَائِف ومَدَائِن، وأمَّا " مَعَايِش " فالياءُ أصلٌ؛ لأنها من " العَيْشِ ".

قال الفَارِسيُّ - عن أبي عثمان -: " أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعٍ " قال: " ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ ".

قال شهابُ الدِّينِ: وقد فعلتِ العربُ مثل هذا، فَهَمَزُوا " مَنَائِرَ ومَصَائِبَ " جمع " منارةٍ ومُصِيبَة " والأصل " مَنَاوِرُ، ومَصَاوِبُ " وقد غلَّطَ سيبويه من قال مصائِبَ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال: " واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول: إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ " [قال] ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ: مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع " مقالٍ " و " مقام ": " مقاول " و " مقاوم " في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال: وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك: [الطويل]

السابقالتالي
2