الرئيسية - التفاسير


* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }

اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسلوَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [إبراهيم: 9]. قالت رسلهم: وهل تشكون في الله، وفي كونه فاطر السموات والأرض وفاطراً لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها، فكيف قلتم: وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب؟ وهذا النظم في غاية الحسن. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قوله: { أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّ } استفهام على سبيل الإنكار، فلما ذكر هذا المعنى أردفه بالدلالة الدالة على وجود الصانع المختار، وهو قوله: { فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن وجود السموات والأرض كيف يدل على احتياجه إلى الصانع المختار الحكيم مراراً وأطواراً فلا نعيدها ههنا. المسألة الثانية: قال صاحب «الكشاف»: أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في أن وجود الله تعالى لا يحتمل الشك، وأقول من الناس من ذهب إلى أنه قبل الوقوف على الدلائل الدقيقة فالفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار، ويدل على أن الفطرة الأولية شاهدة بذلك وجوه: الوجه الأول: قال بعض العقلاء: إن من لطم على وجه صبي لطمة فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار، فلأن الصبي العاقل إذا وقعت اللطمة على وجهه يصيح ويقول: من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها، ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى، وأما دلالتها على وجوب التكليف، فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول: لم ضربني ذلك الضارب؟ وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي فعل شاء واشتهى، وأما دلالتها على وجوب حصول دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى، وأما دلالتها على وجوب النبوة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام، فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأمور الأربعة.

السابقالتالي
2 3 4 5