الرئيسية - التفاسير


* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }

افتتحت سورة الإِسراء بتنزيه الله - تعالى - عن كل ما لا يليق بجلاله، كما يدل على ذلك لفظ " سبحان " الذى من أحسن وجوه إعرابه، أنه اسم مصدر منصوب - على أنه مفعول مطلق - بفعل محذوف، والتقدير سبحت الله - تعالى - سبحانا أى تسبيحا، بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء. قال القرطبى " وقد روى طلحة بن عبيد الله الفياض أحد العشرة - أى المبشرين بالجنة - أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم ما معنى سبحان الله؟ فقال " تنزيه الله من كل سوء ". وقوله { أسرى } من الإِسراء، وهو السير بالليل خاصة. قال الجمل يقال أسرى وسرى، بمعنى سار فى الليل، وهما لازمان، لكن مصدر الأول الإِسراء ومصدر الثانى السرى - بضم السين كالهدى - فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول، وإنما جاءت التعدية هنا من الباء. ومعنى أسرى به، صيره ساريا فى الليل. والمراد { بعبده } خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، والإِضافة للتشريف والتكريم. وأوثر التعبير بلفظ العبد، للدلالة على أن مقام العبودية لله - تعالى - هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها، إذ لو كان هناك وصف أعظم منه فى هذا المقام لعبر به، وللإِشارة - أيضا - إلى تقرير هذه العبودية لله - تعالى - وتأكيدها، حتى لا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية، كما التبسا فى العقائد المسيحية، حيث أَلهوا عيسى - عليه السلام -، وأَلهوا أمه مريم، مع أنهما بريئان من ذلك.. قال الشيخ القاسمى نقلا عن الإِمام ابن القيم فى كتاب " طريق الهجرتين " أكمل الخلق أكملهم عبودية لله - تعالى -، ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم أقرب الخلق إلى الله - تعالى - وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منزلة، لكماله فى مقام العبودية. وكان صلى الله عليه وسلم يقول " أيها الناس ما أحب أن ترفعونى فوق منزلتى. إنما أنا عبد " وكان يقول " لا تطرونى كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ". وذكره - سبحانه - بسمة العبودية فى أشرف مقاماته فى مقام الإِسراء حيث قال { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ }. وفى مقام الدعوة حيث قالوَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } وفى مقام التحدى حيث قالوَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } وقوله { ليلا } ظرف زمان لأسرى. قال صاحب الكشاف " فإن قلت الإِسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟. قلت أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير، تقليل مدة الإِسراء، وأنه أسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية.

السابقالتالي
2 3 4 5