الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }

قلت: { سبحان }: مصدر غير متصرف، منصوب بفعل واجب الحذف، أي أسبحُ سبحان. وهو بمعنى التسبيح، أي: التنزيه، وقد يستعمل عَلَمًا له، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف، كقول الشاعر:
قَدْ أَقُولُ لَمَّا جَاءَني فَخْرُهُ سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ   
و { ليلاً }: منصوب على الظرفية لأسرى. وفائدة ذكره، مع أن السرى هو السير بالليل، ليفيد التقليل، ولذلك نكّره، كأنه قال: أسرى بعبده مسيرة أربعين ليلة في بعض الليل، وذلك ابلغ في المعجزة. ويقال: أسرى وسرى، رباعيًا وثلاثيًا. يقول الحقّ جلّ جلاله: { سبحان الذي أسرى بعبده } وهو: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: تنزيهًا له عن الأماكن والحدود والجهات، إذ هو أقرب من كل شيء إلى كل شيء. وإنما وقع الإسراء برسوله - عليه الصلاة والسلام - ليقتبس أهلُ العالم العلوي، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي، فأسرى به { ليلاً من المسجد الحرام } بعينه لِمَا رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: " بَينَما أَنَا في المسْجِدِ الحَرَامِ في الحِجْر، عِنْدَ البَيْتِ، بَيْنَ النَّائِم واليقْظَانِ، إذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بالبُراقِ ". أو: من الحرم لِمَا رُوي أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء، فأُسْرِيَ به، وسماه مسجدًا لأن الحرم كله مسجد. قاله البيضاوي. قلت: والظاهر أنه وقع مرتين: مرة بجسده من البيت، ومرة بروحه من بيت أم هانئ. والله تعالى أعلم بما كان. قال في المستخْرج من تفسير الغزنوني وغيره: قيل: كان رؤيا صادقة، وقيل: أسرى بروحه، وهو خلاف القرآن، وإن أسند إلى عائشة - رضي الله عنها -، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة، دخل كلام بعضهم في بعض، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتاني جبريل عليه السلام، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل، خطوها مد بصرها، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس، فَنُشِرَ لي رَهْطٌ من الأنبياء، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج، وهو أحسن ما رأيت، فعرج بي، فرأيت في سماء الدنيا رجلاً أعظم الناس وجهًا وهيكلاً، فقيل: هذا أبوك آدم، وفي السماء الثانية شابيْن، فقيل: هما يحيى وعيسى، وفي الثالثة رجلاً أفضل الناس حُسنًا، فقيل: أخوك يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم - صلوات الله على جميعهم -. فانتهيتُ إلى سِدرة المنتهى، فَغَشِيَتْهَا ملائكةٌ، كأنهم جراد من ذهب، فرأيتُ جبريل عليه السلام يتضاءل كأنه صَعْوة - أي: عصفور - فتخلف، وقال: وما منا إلا له مقام معلوم، فجاوزت سبعين حجابًا، ثم احتملني الرفرف إلى العرش، فنُوديتُ: حَيِّ ربك. فقلت: لا اُحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ".

السابقالتالي
2 3